1st Chapter
الوأد السرمدي
من سلسلة الفانتازيا
.ممالك الجليد.
تمهيد
_______________
بعد ملايين السِّنين
تتلاطمُ الأمواج، وتتراقصُ السفينـة مائلةً لليمين والشمال. لم يكن چستن يريد أن يرتادَ هذه السفينة، ولكن السُّفُن حُجِـزت مُسبقًا.
«أما زلتِ تقرئين هذا الكتاب؟» قالها چستن بمللٍ.
أجابتهُ چين ببُرودةِ الجليد:«على الأقل، وقتي منشغل. بِمَ تُفيدني أنتَ؟»
لم يُعِرها چستن اهتمامًا، وإن كان يستشيطُ غضبًا بداخلهِ.
تموَّجت المياهُ في عينيهِ، وتطايرتِ النَّوارسُ بالأعلى في تُحفـةِ فنٍّ ارتسمتْ على خُضـرةِ عينيهِ الزُّمرُّديَّتين. فَـتحَ شِفتيهِ، كادَ ينطقُ ولكنّه تذكر أخيرًا أنها شديدةُ البرود، وستمنحهُ ردًا يبغُضُهُ منها. تبًا لها هيَ وكتابها، وتبًا للكتابِ هو وكاتبهُ. فكّر چستن عابسًا وهو يرمُقها بنظراتٍ من حديدٍ.
«أحضرْ لي كوبَ ماء».
— «أترينني نادلًا؟!» صرخ چستن.
أعطتهُ چين نظرةً باردةً أخرى خاليةً من الكلمات.
تخـلَّى الفتى ذو الشـعرِ الفاحمِ عن مقعدهِ، وأخذ خطوةً نحو النافذةِ ليقترب منها أكثر.
«لماذا لا نستطيعُ السِّباحة في المحيط؟».
— «بحقِّ الآلهةِ، نحنُ في نهرٍ ولسنا في بحر!».
أجاب چستن بمللٍ:«كنتُ أفكّـر بالماء ولستُ أفكـّر بهذا النهر الملعون، فلا تُركِّزي على كُلِّ كلمة تـخرجُ مني. أكملي ثقافتكِ وقرائتكِ السَّخيفة. سأذهبُ إلى حُجرةِ التدخين، فإن أردتِ الماء فسأتمنّى من الآلهةِ أن تُغرقكِ بهِ».
رمقـتهُ چين بنظرةٍ باردةٍ للمرّة الثالثة، وهذهِ الكَرّةُ جعلتهُ يشعُر بإصبعٍ متجمّـدٍ يزحف على ظهرهِ لِيقْشَعِـرَّ بدنهُ تحتَ تلكَ الدِّثارات الخفيفةِ. خرج چستن مبتعدًا عن الغُـرفة بأقصـى سرعتهِ، وشعر حين خُرُوجهِ كأنـهُ عسجدٌ يتماسكُ بعد انصِهارهِ.
تمتمت چين ببيتِ شعرٍ فرنسيٍّ:«يتمادى في الإغاضة، والفتاةُ ذاتُ الحِلمِ تصمتُ» قالتها وبدأت قطَّـتُها تتلوّى بين ذراعيها وتتثاءبُ بمللٍ.
انطلق چستن كعادتهِ إلى حجرة التدخين كما اعتادَ أن يفعلَ كُلَّ صباحٍ.
صادفَ أن كان السير ويليام جريچور يترجّـلُ إلى الحُجرةِ ذاتها بدورهِ، واقتربَ بخطواتٍ واسعةٍ إلى القُربِ من چستن، الذي بدى – بدورهِ – صغيرًا للغايةِ مقارنةً بالسير المتقدّم في السِّن، بل وأنّهُ بدى كإبنهِ.
غمغمَ جريچور بادئًا حديثهما:«تقولُ الأغاني أنهُ قبل ملايين السنين ارتادتْ أسطورة ليانا هذهِ السفينةَ، وقادتها إلى جزيرةِ ما ودُمِّرت لأسبابٍ مجهولةٍ. إلى يومكَ هذا لم يعلم أحدٌ ماهي الجزيرةُ التي سيقودها إليها نهر النيل!».
رمقهُ چستن بنظراتٍ فضوليةٍ:«كيف كان شكلها؟».
— «قيلَ أنها كانت ذات شعر أشقرٍ مُبيَضٍّ كالثلوج، وهو حريريٌّ جدًا. ويقالُ أيضًا أن عينيها زرقاوتان متجمِّدتان كالجليد، وبهما شقوق عميقة كأنها قطعةُ ثلج حقيقيةٌ مُتصدِّعةٌ. كانت جميلة وقوية لدرجةِ أن سُكَّان الممالك المربعةِ عبدوها، فقد كانت تُشبهُ الآلهة».
بدا چستن منسجمًا، وتكلم أخيرًا بعد أنِ استوعبَ:«قيل أنها كانت خالدةً» قال، وأكمل جملتهُ بداخلهِ: أجمل من القبيحة چين. أوه، لماذا هي أختي؟ فكر بعبوسٍ.
دلفَ چستن إلى حجرة التدخين الخاوية. كان السّير جريچور قد اختفى فجأةً، حين تلفّت چستن حوله ولم يجد أحدًا.
استند چستن إلى أحد المقاعد، وأشعل إحدى سجائرهِ. عندما شعرَ بالملل، بدأ يُصفِّرُ بلحنِ أغنيةٍ ما كانت مُرضعتهُ تغنيها لهُ وهو رضيع.
فجأةً، بينما كان مُنسجمًا بِتَذكُّرِ الكلمات، وبذكرياتهِ المُندَثِرةِ، بدأَ يشعُر بالسَّفينةِ تتراخى، وتقدَّمَ جسدهُ معها بقُوَّةٍ واصطدمَ وجههُ بالطاولةِ حتى سالَ الرُّعافُ من فُتحتَي أنفهِ.
أمسـكَ چستن بأنفهِ بألمٍ صامت وهو ينزفُ، كان يكرهُ رؤيةَ الدَّم، ويجاهِدُ كي يُخفيهُ عن ناظريهِ. كان يختلفُ كثيرًا عن أختهِ السيكوباتية، التي كانت تحب لون الدم من كتابها السخيف الذي يصفُ أنواع الدم ومصاصي الدماء على حدِّ وصفِ چستن له. چين وجه الحصان، تعالي وانظري إلى الدم الذي تحبينه! فكر چستن بعبوسٍ وهو يصُبُّ عليها لعناتِهِ وشتائمَهُ.
بدأ السَّطحُ يهتزُّ بقوةٍ شديدةٍ، وتفجّـر الماء فجأة.. حدثُ كلُّ شيء سريعًا، أخذ چستن يحاول الصُّراخ، ولكن الماءَ شقَّ طريقهُ ليملأ فمهُ بهِ ويُخرسهُ بقوَّةٍ. كم كان النيلُ عذبًا، ولكنهُ مميتٌ - على كُلِّ حال.
استيقظَ چستن في منتصف جزيرة ما، نائيةٍ.
— «مالذي حصل؟ مالذي أفعـله هُنـ.. جزيرة؟!!».
تطلع چستن حوله باستغرابٍ.
وقـف چستن ثـم أخذ يخطو حافيًا على تُـراب الجزيرةِ ذهبي اللون، متطلعًا في جمال المياه بلونها الأزرق الزُّمردي وكأنها جوهرةٌ تتلألأ ببريقٍ صامتٍ يسحر النظر.
كان يخطو خُطى الأشباحِ يائسًا يمضي إلى اللامكان.
لا أعلم أين أنا، كيف غادرتُ السفينةَ، ماهذا المكان، هل سأعيشُ طوال حياتي وأدًا سرمديًّا؟ ألم تُقدِّر الآلهةُ الظالمة أن أعرفَ شيئًا؟ هل سأُكمل حياتي كالضائـع؟!! لِمَ لا أجدُ من يجيب أسئلتي؟ يأخذني معهُ بعيدًا.. بعيدًا جدًا، تاركينَ الكونَ وشأنهُ؟!
فجأة لمحَ چستن بعد انقطاع أملـهِ شيئًا أسودَ غريبًا، وبعيدًا. انطلق بسُرعةٍ ولهثٍ يهرعُ بلهفةٍ كالظمآنِ يلمحُ ماءًا.
ما إن هبطَ وِجهتهُ، أبصـر مبنًى ما، ضخمًا للغاية، باردًا. لم يعلم ماهُو، وإن شعرَ بالسَّعادةِ لرؤيتهِ.
استوعب چستن ما أمامهُ أخيرًا، ثُـمَّ صارخًا:«حجارةٌ؟ هل قطعتُ هذه المسافةَ لأجل حجارةٍ؟! ماهذا الهُـراء!»
— «أيَّ حجارةٍ تقصـدُ؟ هذا جَليد» قالت فتاةٌ ما ببرودٍ قاتلٍ.
ثُـم صرخ صوتٌ أخر:«جَليد، هذا معلوم».
بدا چستن مذهولًا من رأسهِ حتى أخمص قدميهِ يهتزُّ بتوترٍ كهاتفهِ.
ظهر بابٌ مفتوحٌ من العدم، وانبعثت منهُ إلى چستن بُرودةٌ عذبةٌ ماسبق أن شعـرَ بها قطُّ، وتبعثـرَ شعرهُ من الوراء بخفَّـةٍ. استدار ليرى ما بالخلفِ، ولمـحَ فتاةً شديدة الجمال ذات شعرٍ ذهبي شديد الطـُّولِ تمشي هيَ وهـُوَ يزحف على الأرض. كانت تتجمّـدُ كما الثلجُ نفسـهُ.
— «من أنتِ؟ ومن هاتان الخرقاوتانِ خلفكِ؟ لماذا تمتلكان نفس الملامح والوجه! وتلكَ الشقراءُ القبيحةُ، أوه ماذا ترِدنَ مني! وكيفَ صنعتُـنَّ هذا الجليد ونحنُ هنا تحت الشمس نذوبُ!»
رفعت الفتاةُ عينيها الزرقاوتين اليهِ، وقالت:«انا هي...»
وجد چستن نفسهُ مذهولًا مرة ثانيـةً، وهذه المرةَ كان فمهُ مفتوحًا، بعدَ أن استوعبَ أنها هي، صـرخ بأعلى قوتهِ حتى اهتزّتِ الفتاةُ الأصغر سنًا:«مسـتحيل!».
_____________
انتهى.